وللموسيقى والغناء معي حكايات ، لا تخلو من دلالة ، وطرافة ، تمتد منذ مولدي* في دار مقدسية تقع ، في حارة الواد، فوق مقهى "سْبيسْ النمْسا" ** الذي لا يسكت مذياعه عن بث الأغنيات إلا ليلبّي رغبة بعض رواده في سماع نشرة الأخبار من " محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية". ثم يعود ليستأنف وظيفته ولايسكت إلا بانتهاء فترات البث الإذاعي من مختلف المحطات ، ليبدأ صوت "الجراموفون" الذي حرص عمي "أبوصالح" ، صاحب المقهى ، على تزويده بأحدث اسطوانا ت "بيضا فون". وعندها لا يسكت صوت ذلك المطرب إلا ليبدا صوت مطربة أو مطرب آخر في اللعلعة. فإذا أغلق المقهى أبوابه وعاد السكون إلى دارنا بعودة أبي من "القهوة".. عاد صوت مختلف المطربين إلى التسلل إلى أذني.. يحرضني على الدندنة بأغانيهم .
أما في فيينا ، فقد شاءت الصدف أن أسكن بداية في إحدى غرف "فيللا" تقع في أطراف المدينة ، في الحي الثالث عشر*** ، كانت تمتلكها وتسكنها سيدة من سلالة أرستقراطية مع حفيدها الذي رفضت زوجة أبيه، الطبيب المشهور، أن تتكفل بالعناية به. وعند وفاة السيدة لم يبق في البيت سوى حفيدها "أولريش" الذي كان قد أصبح شابا يدرس في كلية الطب ، وممرضتها الخاصة "يوتا"، التي ظلت تسكن إحدى غرف الفيللا مقابل إشرافها على شؤون "أولريش" وساكن آخرهو طالب من كندا إسمه "موري شيفر" كان يدرس الموسيقى في "فيينا".
__________________________________________________
(*) عام 1934، آن قامت شركة "ماركوني" ببث أول إرسال إذاعي مصري على الهواء .
(**) مقهى شعبي في بلدة القدس القديمة يقع أمام مبنى"هوسبيس النمسا" الشهيرالذي بناه قيصرالنمسا "فرانتس جوزيف" عام 1860 لاستقبال الحجاج الكاثوليك .
(***) تنقسم مدينة فيينا ، إداريا ، إلى 23 حيا سكنيا .
* * *
كان "موري" يمتلك مذياعا من طراز"عسكري"، ظل يحتفظ به بعد أن أنهى خدمته العسكرية في كندا ، بإمكانه أن يلتقط أي إرسال إذاعي يخطر بالبال . ولقد دأبت، بعد أن توطدت علاقتي بـ "موري"، على إلتقاط محطة إذاعة "البرنامج الثاني" ، و"صوت العرب" ، ومواصلة الإستماع لبرامجهما المختلفة .. حتى أدمن "موري" نفسه على سماع الموسيقى والأغاني العربية .. ودأب على تحيتي صباح مساء بترديده للحن "أمجاد ياعرب أمجاد" المجيد .. بل وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أم كلثوم".. لا يمل عن السؤال عن أسماء الملحنين للأغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها الموسيقية بالذات.
كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها .. ويردد دائما أن " سِنْباتي" أو"أسَبْجي" أو"هَمْدي" أو "أبدِلْوَخّاب" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة .. تلك "التفاصيل" .
أذكر من ملاحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية العناصر" ، اللحن أوالنغم الأحادي الصوت ، والإيقاع . بينما تتميز الموسيقى الغربية بعناصر أخرى مثل تعدد الأصوات ، الـ "بوليفونيه" ، مما يساعد على تكثيف النغمات ، إلى جانب اعتمادها على الـ "هارمونيه" التي تقوم بتوزيع الألحان وتكثيفها وإثراءها.
مع "موري" ، ومن ثم "يوتا" وطائفة أخرى من المحرِّضين والمحرضات ، اكتشفت متعة جديدة هي متعة "الإستماع الجماعي" . فبصحبته دخلت لأول مرة صالة الـ"كونسيرت" ليزداد يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أداة لتغذية الوجدان والإرتقاء بالعواطف.. والإنتصار لهما ، ولأعرف أن الإستماع الجاد للموسيقى الجادة شكل من أشكال الصلاة .
ولم يلبث "موري" ، إثر سماعه لتعليقى هذا ، أن أصرعلى اصطحابي، في أحد أيام الأحد التالية ، إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة Stephanskirche حيث حدثني عن الموسيقار الألماني"يوهان سيباستيان باخ" وأسمعني نموذجا من موسيقاه الكنسية ، وحيث ازداد يقيني بالعلاقة بين الموسيقى وبين الصلاة و محاولات التقرب إلى الله .
الموسيقى ، كما يقول "باخ" ، هي الإسم الدارج لروح الإنسان .
وهي تمتلك القدرة على الشفاء ، لأنها تغسل الروح من غبار الحياة اليومية.
وهي ، كما يقول "بيتهوفن" ، وسيط بين الحياة الروحية والمادية . كما أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير العالم .
الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر .. والحب .
إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات ، كما وصفها أحد الفلاسفة .
وهي كما قال "مارتن لوثر" واحدة من أعظم عطايا الله للإنسان .
أو، كما يقول"سرفانتس" :
يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى .
الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا يحتوي قاموسها على أي تعبير يتسم بالبذاءة . وهي مقياس للحضارة ، بسبب قدرتها على التأثير في المشاعر وتهدئة الإنفعالات .
وبدونها ، كما يقول "نيتشه" ، تكاد الحياة أن تكون إثما .
وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي الألوان ، كما ينشد "طاغور" فلا أقل من أن نرد عليه بالموسيقى .
في صالة "الكونسيرت" يرغمك الإنصات الجماعي ، أو يغريك ، على التأمل والتفكير ومن ثم الاستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى بشكل محسوب ومدروس، بحيث تتوصل ، بينما الموسيقى تملأ الأرجاء والمكان سحرا ، إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة .
وكماهي الحال في المسرح ، حيث يشعرالمؤدي بمسؤولية رسالتة تجاه المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقوم بترديد كلماتها، كذلك يوحي العازف للمستمع ، مباشرة ، بإحساسه الطازج بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقوم بعزفها .
قلما يصلك هذا الإحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "راديو" أو "فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة .
وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريده ييلينيك" ، صاحبة الرواية ذائعة الصيت .. "عازفة البيانو" :
"لن يصل الإنسان إلى أسمى ما لديه من قيم إلا عندما ينفصل عن الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس."
ففي صالة "الكونسيرت" ، أو"الأوبرا"، تدرك معنى أن ينفصل المرء ،
باختياره ، وبكامل وعيه ، عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس .
هناك ستكتشف فعلا أن "الصمت" أيضا موسيقى ، وأنه جزء أساسي من الجملة الموسيقية التي يعرّفها البعض بأنها تتابع لأصوات تصدرها آلة ، أوعدة آلات موسيقية متنوعة ، تعلو وتنخفض ، لفترات متباينة لتتناغم مع فترات أخرى ، تقصر أو تطول ، من الصمت .
في تلك الصالات ، يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري ، فنلاحظ أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات لكي يعودوا إلى واقعهم ، فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد، حيث أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لاإراديا ، خشية أن يزعجوا بحركتهم هذه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف ، (شيء من فضيلة احترام الآخر) ، أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء التزام الصمت .. فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي المتنوع على "مفاصل" المقاعد .. و"حناجر" الحاضرين !
الموسيقى ، في إعتقادي ، تجسٌد "قيمة" إنسانية عالية ، حيث يلتزم أفراد الفريق الموسيقي ، أوالكورال ، بقاعدتين ذهبيتين :
يبدأون سويا .. وينتهون سويا .
تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل الجماعي".
ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل من أجل مستقبل البشرية.
* * *
ولقد استمرت صداقتنا ، "موري شيفر" وأنا ، بعد أن انتقلت إثر مرور عام، للسكنى في "الحي الثاني" ، قريبا من أكاديمية الفنون التطبيقية مقر دراستي، حيث وصلتني منه رسالة، من القاهرة ، يقول فيها أنه قرر دراسة الموسيقى العربية .
أما المايسترو المصري "كمال هلال" فلم تكن سكناه في نفس البيت الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجرد صدفة ، لأنني سعيت إلى ذلك .. حبا في الموسيقى والموسيقيين . ولم أندم على فعلتي هذه إلا بين حين وآخر(!) وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب ، أكثر ما شدني لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصراره الذي تبدّى في حكاياته لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع منذ أن عمل ترزيا في طفولته .. إلى أن عمل في محل لبيع الآلات الموسيقية .. ومن ثم "إنحرافه" ، حسب تعبيره الساخر ، إلى "مهنة الموسيقى" .. إلى أن أصبح وهو في الخامسة عشرة "عازف تشيللو" على مسارح "روض الفرج" .. إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك الآلة في فرقة "أحمد فؤاد حسن" الغنية عن التعريف .. وما تبع ذلك من محاولاته الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي في فيينا .
أدخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظام وهو أحد رواد وأساتذة فن الأوبريت النمساوي ، "فرانتس فون سوبيه" Franz von Suppe . فقد كان ، استعدادا لـ "امتحان تحديد المستوى" للقبول في الأكاديمية ، يقوم بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفرد المكتوب لآلة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلاح" ، رائعة الموسيقي المذكور.
أسرتني تلك الآلة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل . وكان من البديهي أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كاملا . وما زلت حتى الآن أحتفظ بالأسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية .
في أحد الأمسيات.. سهرنا "سعيد الجمل" ، الذي كان والده يمتلك "كازينوالجمل" في شارع الهرم ، وهو يدرس إدارة فنادق في فيينا ، و "كمال هلال" وأنا ، في أحد المطاعم الشهيرة Rathauskeller، "حانة دارالبلدية" ، حيث تكتظ بروادها في أمسيات أيام السبت ويطول فيها السهرعلى أنغام الموسيقى والأغاني الشعبية الجماعية الفييناوية المرحة .
تساءلت في تلك الأمسية ، وكثيرا ما تساءلنا ، عن سبب نقص الأغاني الشعبية الجماعية لدينا ، التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في ترديدها في مختلف المناسبات . ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة بالغناء الجماعي يطول بحثنا عن أغنية لنرددها كمجموعة ، أسوة بزملاء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلابية ، فلا نجد سوى أغنية "والله زمان ياسلاحي" أو تلك الأغنيات الحماسية التي اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن (بعد عام 56) .
انفعل المايسترو "كمال هلال" ، إحساسا منه بأنه معنيّ بهذا التقصير، وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاولا دحضها بأن يستعرض أغنيات تعود إلى عهد ازدهار المسرح الغنائي .. منذ أيام فنان الشعب "سيد درويش" مثلا ..
ويفسر لنا هذا النقص ، أوالتناقص ، باندثار ذلك النوع من المسارح . وفي مقابل ذلك انتشار الأغاني الفردية التي تهتم بالتطريب .. بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون" .. واستعراض لـ "العُرَبْ" التي تميّز صوت ذلك المطرب عن غيره .
وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية .
طلب من النادل ان يحضر له ورقة وقلما . وأخذنا نرقبه وهو يرسم على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة أخرى إلى أن امتلأت الصفحة .. وأدركنا ما هو مقبل عليه .
أخذ يدندن ويدوّن النوته الموسيقية لأغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن متناول ذاكرتي . كانت أغنية سيد درويش :
" الحلوه دي قامت تعجن في الصبحية " .
ثم أخذ يلقننا كلمات الأغنية و يقودنا لترديدها بصوت خفيض .. إلى أن اطمأن لنجاح التجربة ، فأشار للفرقة الموسيقية التي تعودت أثناء عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن وتشجيعهم على المشاركة.. وسرعان ما أخذت الفرقة بالإقتراب منا بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا يردده جميع الحاضرين نساء ورجالا في جذل .
انتظر حتى انتهت الأغنية . وقبل أن يبدأ الفريق ، المكون من عازف الأكورديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس ، بأغنية أخرى ، كان "كمال" قد أعطى الورقة ، التي تحتوي على النوتة الموسيقية لأغنية "سيد درويش" ، لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع رفاقه برهة.. ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلاثة حولنا وأخذوا في عزف الأغنية .. بينما نحن ، بقيادة "كمال هلال" ، نردد كلماتها .
في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت الآلات الثلاثة وصوتنا مشاركا بترديد كلمات الأغنية . ثم ابتدأت همهمات الجمهور الموقـّعة المشاركة تتزايد بالتدريج.. وأخذت الأصوات تعلو شيئا فشيئا.. بينما استغنى أفراد الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة على المائدة ، بعد أن حفظوا اللحن الجميل ، الذي يتصف بأسلوب "سيد درويش" ، "السهل الممتنع"، وابتدأوا كعادتهم بالتجوال بين الموائد ، وقد انتقل الحماس من مائدة لأخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر تصيح سويا مرددة ذلك المقطع المميز :
" والديك بيدّن .. .. كوكو كـــــوكو .. م الفجريه" .
ويحكى أنه ، بعد ذلك ، قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية" الشهيرة في "فيينا"، الذين يتوسم فيهم أفراد الفرقة أنهم من أصول عربية أو شرقية .
* * *
من الأشياء التي وضحها لي "كمال هلال" ، في ذلك الوقت ، كانت مشكلة "الربع تون" في موسيقانا. وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس إلى آلة البيانو . قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون" الكامل ، وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء (المقام الكبير) ، و"النصف تون" , وهو ما نسمعه عند العزف على الأصابع السوداء للبيانو (المقام الصغير).
أما السلالم ، أو المقامات ، الموسيقية العربية المتعددة فيحتوي الكثير منها على نصف النصف .. أي "الربع تون" **، وهوالصوت الذي لا تستطيع الآلات الغربية إصداره . ولقد وضّح لي ذلك سبب عدم استساغة الأذن الغربية أحيانا لأغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية" يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها .
إلا أن هناك مقامات شرقية لا تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم تتعودها الأذن الغربية. مثال ذلك "مقام النهاوند" .. أو"مقام حجاز" الذي صاغ به الموسيقار، فنان الشعب "سيد درويش " ، لحن أغنية "الحلوه دي قامت تعجن .. " .
_________________________________
(**) نمى إلى علمي بعد ذلك ، والله أعلم ، أن "الربع تون" ، "الربع نغمة " ، هو الإسم الدارج .. أما التسمية العلمية الصحيحة فهي : "ثلاثة أرباع النغمة .
* * *
وللموسيقى والغناء معي حكايات ، لا تخلو من دلالة ، وطرافة ، تمتد منذ مولدي* في دار مقدسية تقع ، في حارة الواد، فوق مقهى "سْبيسْ النمْسا" ** الذي لا يسكت مذياعه عن بث الأغنيات إلا ليلبّي رغبة بعض رواده في سماع نشرة الأخبار من " محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية". ثم يعود ليستأنف وظيفته ولايسكت إلا بانتهاء فترات البث الإذاعي من مختلف المحطات ، ليبدأ صوت "الجراموفون" الذي حرص عمي "أبوصالح" ، صاحب المقهى ، على تزويده بأحدث اسطوانا ت "بيضا فون". وعندها لا يسكت صوت ذلك المطرب إلا ليبدا صوت مطربة أو مطرب آخر في اللعلعة. فإذا أغلق المقهى أبوابه وعاد السكون إلى دارنا بعودة أبي من "القهوة".. عاد صوت مختلف المطربين إلى التسلل إلى أذني.. يحرضني على الدندنة بأغانيهم .
أما في فيينا ، فقد شاءت الصدف أن أسكن بداية في إحدى غرف "فيللا" تقع في أطراف المدينة ، في الحي الثالث عشر*** ، كانت تمتلكها وتسكنها سيدة من سلالة أرستقراطية مع حفيدها الذي رفضت زوجة أبيه، الطبيب المشهور، أن تتكفل بالعناية به. وعند وفاة السيدة لم يبق في البيت سوى حفيدها "أولريش" الذي كان قد أصبح شابا يدرس في كلية الطب ، وممرضتها الخاصة "يوتا"، التي ظلت تسكن إحدى غرف الفيللا مقابل إشرافها على شؤون "أولريش" وساكن آخرهو طالب من كندا إسمه "موري شيفر" كان يدرس الموسيقى في "فيينا".
____________________________________________
(*) عام 1934، آن قامت شركة "ماركوني" ببث أول إرسال إذاعي مصري على الهواء .
(**) مقهى شعبي في بلدة القدس القديمة يقع أمام مبنى"هوسبيس النمسا" الشهيرالذي بناه قيصرالنمسا "فرانتس جوزيف"
عام 1860 لاستقبال الحجاج الكاثوليك .
(***) تنقسم مدينة فيينا ، إداريا ، إلى 23 حيا سكنيا .
* * *
كان "موري" يمتلك مذياعا من طراز"عسكري"، ظل يحتفظ به بعد أن أنهى خدمته العسكرية في كندا ، بإمكانه أن يلتقط أي إرسال إذاعي يخطر بالبال . ولقد دأبت، بعد أن توطدت علاقتي بـ "موري"، على إلتقاط محطة إذاعة "البرنامج الثاني" ، و"صوت العرب" ، ومواصلة الإستماع لبرامجهما المختلفة .. حتى أدمن "موري" نفسه على سماع الموسيقى والأغاني العربية .. ودأب على تحيتي صباح مساء بترديده للحن "أمجاد ياعرب أمجاد" المجيد .. بل وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أم كلثوم".. لا يمل عن السؤال عن أسماء الملحنين للأغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها الموسيقية بالذات.
كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها .. ويردد دائما أن " سِنْباتي" أو"أسَبْجي" أو"هَمْدي" أو "أبدِلْوَخّاب" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة .. تلك "التفاصيل" .
أذكر من ملاحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية العناصر" ، اللحن أوالنغم الأحادي الصوت ، والإيقاع . بينما تتميز الموسيقى الغربية بعناصر أخرى مثل تعدد الأصوات ، الـ "بوليفونيه" ، مما يساعد على تكثيف النغمات ، إلى جانب اعتمادها على الـ "هارمونيه" التي تقوم بتوزيع الألحان وتكثيفها وإثراءها.
مع "موري" ، ومن ثم "يوتا" وطائفة أخرى من المحرِّضين والمحرضات ، اكتشفت متعة جديدة هي متعة "الإستماع الجماعي" . فبصحبته دخلت لأول مرة صالة الـ"كونسيرت" ليزداد يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أداة لتغذية الوجدان والإرتقاء بالعواطف.. والإنتصار لهما ، ولأعرف أن الإستماع الجاد للموسيقى الجادة شكل من أشكال الصلاة .
ولم يلبث "موري" ، إثر سماعه لتعليقى هذا ، أن أصرعلى اصطحابي، في أحد أيام الأحد التالية ، إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة Stephanskirche حيث حدثني عن الموسيقار الألماني"يوهان سيباستيان باخ" وأسمعني نموذجا من موسيقاه الكنسية ، وحيث ازداد يقيني بالعلاقة بين الموسيقى وبين الصلاة و محاولات التقرب إلى الله .
الموسيقى ، كما يقول "باخ" ، هي الإسم الدارج لروح الإنسان .
وهي تمتلك القدرة على الشفاء ، لأنها تغسل الروح من غبار الحياة اليومية.
وهي ، كما يقول "بيتهوفن" ، وسيط بين الحياة الروحية والمادية . كما أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير العالم .
الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر .. والحب .
إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات ، كما وصفها أحد الفلاسفة .
وهي كما قال "مارتن لوثر" واحدة من أعظم عطايا الله للإنسان .
أو، كما يقول"سرفانتس" :
يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى .
الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا يحتوي قاموسها على أي تعبير يتسم بالبذاءة . وهي مقياس للحضارة ، بسبب قدرتها على التأثير في المشاعر وتهدئة الإنفعالات .
وبدونها ، كما يقول "نيتشه" ، تكاد الحياة أن تكون إثما .
وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي الألوان ، كما ينشد "طاغور" فلا أقل من أن نرد عليه بالموسيقى .
في صالة "الكونسيرت" يرغمك الإنصات الجماعي ، أو يغريك ، على التأمل والتفكير ومن ثم الاستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى بشكل محسوب ومدروس، بحيث تتوصل ، بينما الموسيقى تملأ الأرجاء والمكان سحرا ، إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة .
وكماهي الحال في المسرح ، حيث يشعرالمؤدي بمسؤولية رسالتة تجاه المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقوم بترديد كلماتها، كذلك يوحي العازف للمستمع ، مباشرة ، بإحساسه الطازج بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقوم بعزفها .
قلما يصلك هذا الإحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "راديو" أو "فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة .
وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريده ييلينيك" ، صاحبة الرواية ذائعة الصيت .. "عازفة البيانو" :
"لن يصل الإنسان إلى أسمى ما لديه من قيم إلا عندما ينفصل عن الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس."
ففي صالة "الكونسيرت" ، أو"الأوبرا"، تدرك معنى أن ينفصل المرء ،
باختياره ، وبكامل وعيه ، عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس .
هناك ستكتشف فعلا أن "الصمت" أيضا موسيقى ، وأنه جزء أساسي من الجملة الموسيقية التي يعرّفها البعض بأنها تتابع لأصوات تصدرها آلة ، أوعدة آلات موسيقية متنوعة ، تعلو وتنخفض ، لفترات متباينة لتتناغم مع فترات أخرى ، تقصر أو تطول ، من الصمت .
في تلك الصالات ، يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري ، فنلاحظ أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات لكي يعودوا إلى واقعهم ، فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد، حيث أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لاإراديا ، خشية أن يزعجوا بحركتهم هذه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف ، (شيء من فضيلة احترام الآخر) ، أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء التزام الصمت .. فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي المتنوع على "مفاصل" المقاعد .. و"حناجر" الحاضرين !
الموسيقى ، في إعتقادي ، تجسٌد "قيمة" إنسانية عالية ، حيث يلتزم أفراد الفريق الموسيقي ، أوالكورال ، بقاعدتين ذهبيتين :
يبدأون سويا .. وينتهون سويا .
تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل الجماعي".
ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل من أجل مستقبل البشرية.
* * *
ولقد استمرت صداقتنا ، "موري شيفر" وأنا ، بعد أن انتقلت إثر مرور عام، للسكنى في "الحي الثاني" ، قريبا من أكاديمية الفنون التطبيقية مقر دراستي، حيث وصلتني منه رسالة، من القاهرة ، يقول فيها أنه قرر دراسة الموسيقى العربية .
أما المايسترو المصري "كمال هلال" فلم تكن سكناه في نفس البيت الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجرد صدفة ، لأنني سعيت إلى ذلك .. حبا في الموسيقى والموسيقيين . ولم أندم على فعلتي هذه إلا بين حين وآخر(!) وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب ، أكثر ما شدني لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصراره الذي تبدّى في حكاياته لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع منذ أن عمل ترزيا في طفولته .. إلى أن عمل في محل لبيع الآلات الموسيقية .. ومن ثم "إنحرافه" ، حسب تعبيره الساخر ، إلى "مهنة الموسيقى" .. إلى أن أصبح وهو في الخامسة عشرة "عازف تشيللو" على مسارح "روض الفرج" .. إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك الآلة في فرقة "أحمد فؤاد حسن" الغنية عن التعريف .. وما تبع ذلك من محاولاته الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي في فيينا .
أدخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظام وهو أحد رواد وأساتذة فن الأوبريت النمساوي ، "فرانتس فون سوبيه" Franz von Suppe . فقد كان ، استعدادا لـ "امتحان تحديد المستوى" للقبول في الأكاديمية ، يقوم بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفرد المكتوب لآلة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلاح" ، رائعة الموسيقي المذكور.
أسرتني تلك الآلة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل . وكان من البديهي أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كاملا . وما زلت حتى الآن أحتفظ بالأسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية .
في أحد الأمسيات.. سهرنا "سعيد الجمل" ، الذي كان والده يمتلك "كازينوالجمل" في شارع الهرم ، وهو يدرس إدارة فنادق في فيينا ، و "كمال هلال" وأنا ، في أحد المطاعم الشهيرة Rathauskeller، "حانة دارالبلدية" ، حيث تكتظ بروادها في أمسيات أيام السبت ويطول فيها السهرعلى أنغام الموسيقى والأغاني الشعبية الجماعية الفييناوية المرحة .
تساءلت في تلك الأمسية ، وكثيرا ما تساءلنا ، عن سبب نقص الأغاني الشعبية الجماعية لدينا ، التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في ترديدها في مختلف المناسبات . ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة بالغناء الجماعي يطول بحثنا عن أغنية لنرددها كمجموعة ، أسوة بزملاء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلابية ، فلا نجد سوى أغنية "والله زمان ياسلاحي" أو تلك الأغنيات الحماسية التي اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن (بعد عام 56) .
انفعل المايسترو "كمال هلال" ، إحساسا منه بأنه معنيّ بهذا التقصير، وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاولا دحضها بأن يستعرض أغنيات تعود إلى عهد ازدهار المسرح الغنائي .. منذ أيام فنان الشعب "سيد درويش" مثلا ..
ويفسر لنا هذا النقص ، أوالتناقص ، باندثار ذلك النوع من المسارح . وفي مقابل ذلك انتشار الأغاني الفردية التي تهتم بالتطريب .. بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون" .. واستعراض لـ "العُرَبْ" التي تميّز صوت ذلك المطرب عن غيره .
وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية .
طلب من النادل ان يحضر له ورقة وقلما . وأخذنا نرقبه وهو يرسم على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة أخرى إلى أن امتلأت الصفحة .. وأدركنا ما هو مقبل عليه .
أخذ يدندن ويدوّن النوته الموسيقية لأغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن متناول ذاكرتي . كانت أغنية سيد درويش :
" الحلوه دي قامت تعجن في الصبحية " .
ثم أخذ يلقننا كلمات الأغنية و يقودنا لترديدها بصوت خفيض .. إلى أن اطمأن لنجاح التجربة ، فأشار للفرقة الموسيقية التي تعودت أثناء عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن وتشجيعهم على المشاركة.. وسرعان ما أخذت الفرقة بالإقتراب منا بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا يردده جميع الحاضرين نساء ورجالا في جذل .
انتظر حتى انتهت الأغنية . وقبل أن يبدأ الفريق ، المكون من عازف الأكورديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس ، بأغنية أخرى ، كان "كمال" قد أعطى الورقة ، التي تحتوي على النوتة الموسيقية لأغنية "سيد درويش" ، لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع رفاقه برهة.. ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلاثة حولنا وأخذوا في عزف الأغنية .. بينما نحن ، بقيادة "كمال هلال" ، نردد كلماتها .
في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت الآلات الثلاثة وصوتنا مشاركا بترديد كلمات الأغنية . ثم ابتدأت همهمات الجمهور الموقـّعة المشاركة تتزايد بالتدريج.. وأخذت الأصوات تعلو شيئا فشيئا.. بينما استغنى أفراد الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة على المائدة ، بعد أن حفظوا اللحن الجميل ، الذي يتصف بأسلوب "سيد درويش" ، "السهل الممتنع"، وابتدأوا كعادتهم بالتجوال بين الموائد ، وقد انتقل الحماس من مائدة لأخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر تصيح سويا مرددة ذلك المقطع المميز :
" والديك بيدّن .. .. كوكو كـــــوكو .. م الفجريه" .
ويحكى أنه ، بعد ذلك ، قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية" الشهيرة في "فيينا"، الذين يتوسم فيهم أفراد الفرقة أنهم من أصول عربية أو شرقية .
* * *
من الأشياء التي وضحها لي "كمال هلال" ، في ذلك الوقت ، كانت مشكلة "الربع تون" في موسيقانا. وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس إلى آلة البيانو . قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون" الكامل ، وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء (المقام الكبير) ، و"النصف تون" , وهو ما نسمعه عند العزف على الأصابع السوداء للبيانو (المقام الصغير).
أما السلالم ، أو المقامات ، الموسيقية العربية المتعددة فيحتوي الكثير منها على نصف النصف .. أي "الربع تون" **، وهوالصوت الذي لا تستطيع الآلات الغربية إصداره . ولقد وضّح لي ذلك سبب عدم استساغة الأذن الغربية أحيانا لأغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية" يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها .
إلا أن هناك مقامات شرقية لا تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم تتعودها الأذن الغربية. مثال ذلك "مقام النهاوند" .. أو"مقام حجاز" الذي صاغ به الموسيقار، فنان الشعب "سيد درويش " ، لحن أغنية "الحلوه دي قامت تعجن .. " .
_________________________________
(**) نمى إلى علمي بعد ذلك ، والله أعلم ، أن "الربع تون" ، "الربع نغمة " ، هو الإسم الدارج .. أما التسمية العلمية الصحيحة فهي : "ثلاثة أرباع النغمة" .
(***) تنقسم مدينة فيينا ، إداريا ، إلى 23 حيا سكنيا .
* * *
كان "موري" يمتلك مذياعا من طراز"عسكري"، ظل يحتفظ به بعد أن أنهى خدمته العسكرية في كندا ، بإمكانه أن يلتقط أي إرسال إذاعي يخطر بالبال . ولقد دأبت، بعد أن توطدت علاقتي بـ "موري"، على إلتقاط محطة إذاعة "البرنامج الثاني" ، و"صوت العرب" ، ومواصلة الإستماع لبرامجهما المختلفة .. حتى أدمن "موري" نفسه على سماع الموسيقى والأغاني العربية .. ودأب على تحيتي صباح مساء بترديده للحن "أمجاد ياعرب أمجاد" المجيد .. بل وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أم كلثوم".. لا يمل عن السؤال عن أسماء الملحنين للأغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها الموسيقية بالذات.
كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها .. ويردد دائما أن " سِنْباتي" أو"أسَبْجي" أو"هَمْدي" أو "أبدِلْوَخّاب" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة .. تلك "التفاصيل" .
أذكر من ملاحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية العناصر" ، اللحن أوالنغم الأحادي الصوت ، والإيقاع . بينما تتميز الموسيقى الغربية بعناصر أخرى مثل تعدد الأصوات ، الـ "بوليفونيه" ، مما يساعد على تكثيف النغمات ، إلى جانب اعتمادها على الـ "هارمونيه" التي تقوم بتوزيع الألحان وتكثيفها وإثراءها.
مع "موري" ، ومن ثم "يوتا" وطائفة أخرى من المحرِّضين والمحرضات ، اكتشفت متعة جديدة هي متعة "الإستماع الجماعي" . فبصحبته دخلت لأول مرة صالة الـ"كونسيرت" ليزداد يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أداة لتغذية الوجدان والإرتقاء بالعواطف.. والإنتصار لهما ، ولأعرف أن الإستماع الجاد للموسيقى الجادة شكل من أشكال الصلاة .
ولم يلبث "موري" ، إثر سماعه لتعليقى هذا ، أن أصرعلى اصطحابي، في أحد أيام الأحد التالية ، إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة Stephanskirche حيث حدثني عن الموسيقار الألماني"يوهان سيباستيان باخ" وأسمعني نموذجا من موسيقاه الكنسية ، وحيث ازداد يقيني بالعلاقة بين الموسيقى وبين الصلاة و محاولات التقرب إلى الله .
الموسيقى ، كما يقول "باخ" ، هي الإسم الدارج لروح الإنسان .
وهي تمتلك القدرة على الشفاء ، لأنها تغسل الروح من غبار الحياة اليومية.
وهي ، كما يقول "بيتهوفن" ، وسيط بين الحياة الروحية والمادية . كما أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير العالم .
الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر .. والحب .
إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات ، كما وصفها أحد الفلاسفة .
وهي كما قال "مارتن لوثر" واحدة من أعظم عطايا الله للإنسان .
أو، كما يقول"سرفانتس" :
يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى .
الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا يحتوي قاموسها على أي تعبير يتسم بالبذاءة . وهي مقياس للحضارة ، بسبب قدرتها على التأثير في المشاعر وتهدئة الإنفعالات .
وبدونها ، كما يقول "نيتشه" ، تكاد الحياة أن تكون إثما .
وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي الألوان ، كما ينشد "طاغور" فلا أقل من أن نرد عليه بالموسيقى .
في صالة "الكونسيرت" يرغمك الإنصات الجماعي ، أو يغريك ، على التأمل والتفكير ومن ثم الاستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى بشكل محسوب ومدروس، بحيث تتوصل ، بينما الموسيقى تملأ الأرجاء والمكان سحرا ، إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة .
وكماهي الحال في المسرح ، حيث يشعرالمؤدي بمسؤولية رسالتة تجاه المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقوم بترديد كلماتها، كذلك يوحي العازف للمستمع ، مباشرة ، بإحساسه الطازج بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقوم بعزفها .
قلما يصلك هذا الإحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "راديو" أو "فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة .
وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريده ييلينيك" ، صاحبة الرواية ذائعة الصيت .. "عازفة البيانو" :
"لن يصل الإنسان إلى أسمى ما لديه من قيم إلا عندما ينفصل عن الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس."
ففي صالة "الكونسيرت" ، أو"الأوبرا"، تدرك معنى أن ينفصل المرء ،
باختياره ، وبكامل وعيه ، عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس .
هناك ستكتشف فعلا أن "الصمت" أيضا موسيقى ، وأنه جزء أساسي من الجملة الموسيقية التي يعرّفها البعض بأنها تتابع لأصوات تصدرها آلة ، أوعدة آلات موسيقية متنوعة ، تعلو وتنخفض ، لفترات متباينة لتتناغم مع فترات أخرى ، تقصر أو تطول ، من الصمت .
في تلك الصالات ، يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري ، فنلاحظ أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات لكي يعودوا إلى واقعهم ، فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد، حيث أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لاإراديا ، خشية أن يزعجوا بحركتهم هذه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف ، (شيء من فضيلة احترام الآخر) ، أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء التزام الصمت .. فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي المتنوع على "مفاصل" المقاعد .. و"حناجر" الحاضرين !
الموسيقى ، في إعتقادي ، تجسٌد "قيمة" إنسانية عالية ، حيث يلتزم أفراد الفريق الموسيقي ، أوالكورال ، بقاعدتين ذهبيتين :
يبدأون سويا .. وينتهون سويا .
تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل الجماعي".
ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل من أجل مستقبل البشرية.
* * *
ولقد استمرت صداقتنا ، "موري شيفر" وأنا ، بعد أن انتقلت إثر مرور عام، للسكنى في "الحي الثاني" ، قريبا من أكاديمية الفنون التطبيقية مقر دراستي، حيث وصلتني منه رسالة، من القاهرة ، يقول فيها أنه قرر دراسة الموسيقى العربية .
أما المايسترو المصري "كمال هلال" فلم تكن سكناه في نفس البيت الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجرد صدفة ، لأنني سعيت إلى ذلك .. حبا في الموسيقى والموسيقيين . ولم أندم على فعلتي هذه إلا بين حين وآخر(!) وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب ، أكثر ما شدني لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصراره الذي تبدّى في حكاياته لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع منذ أن عمل ترزيا في طفولته .. إلى أن عمل في محل لبيع الآلات الموسيقية .. ومن ثم "إنحرافه" ، حسب تعبيره الساخر ، إلى "مهنة الموسيقى" .. إلى أن أصبح وهو في الخامسة عشرة "عازف تشيللو" على مسارح "روض الفرج" .. إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك الآلة في فرقة "أحمد فؤاد حسن" الغنية عن التعريف .. وما تبع ذلك من محاولاته الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي في فيينا .
أدخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظام وهو أحد رواد وأساتذة فن الأوبريت النمساوي ، "فرانتس فون سوبيه" Franz von Suppe . فقد كان ، استعدادا لـ "امتحان تحديد المستوى" للقبول في الأكاديمية ، يقوم بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفرد المكتوب لآلة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلاح" ، رائعة الموسيقي المذكور.
أسرتني تلك الآلة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل . وكان من البديهي أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كاملا . وما زلت حتى الآن أحتفظ بالأسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية .
في أحد الأمسيات.. سهرنا "سعيد الجمل" ، الذي كان والده يمتلك "كازينوالجمل" في شارع الهرم ، وهو يدرس إدارة فنادق في فيينا ، و "كمال هلال" وأنا ، في أحد المطاعم الشهيرة Rathauskeller، "حانة دارالبلدية" ، حيث تكتظ بروادها في أمسيات أيام السبت ويطول فيها السهرعلى أنغام الموسيقى والأغاني الشعبية الجماعية الفييناوية المرحة .
تساءلت في تلك الأمسية ، وكثيرا ما تساءلنا ، عن سبب نقص الأغاني الشعبية الجماعية لدينا ، التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في ترديدها في مختلف المناسبات . ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة بالغناء الجماعي يطول بحثنا عن أغنية لنرددها كمجموعة ، أسوة بزملاء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلابية ، فلا نجد سوى أغنية "والله زمان ياسلاحي" أو تلك الأغنيات الحماسية التي اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن (بعد عام 56) .
انفعل المايسترو "كمال هلال" ، إحساسا منه بأنه معنيّ بهذا التقصير، وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاولا دحضها بأن يستعرض أغنيات تعود إلى عهد ازدهار المسرح الغنائي .. منذ أيام فنان الشعب "سيد درويش" مثلا ..
ويفسر لنا هذا النقص ، أوالتناقص ، باندثار ذلك النوع من المسارح . وفي مقابل ذلك انتشار الأغاني الفردية التي تهتم بالتطريب .. بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون" .. واستعراض لـ "العُرَبْ" التي تميّز صوت ذلك المطرب عن غيره .
وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية .
طلب من النادل ان يحضر له ورقة وقلما . وأخذنا نرقبه وهو يرسم على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة أخرى إلى أن امتلأت الصفحة .. وأدركنا ما هو مقبل عليه .
أخذ يدندن ويدوّن النوته الموسيقية لأغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن متناول ذاكرتي . كانت أغنية سيد درويش :
" الحلوه دي قامت تعجن في الصبحية " .
ثم أخذ يلقننا كلمات الأغنية و يقودنا لترديدها بصوت خفيض .. إلى أن اطمأن لنجاح التجربة ، فأشار للفرقة الموسيقية التي تعودت أثناء عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن وتشجيعهم على المشاركة.. وسرعان ما أخذت الفرقة بالإقتراب منا بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا يردده جميع الحاضرين نساء ورجالا في جذل .
انتظر حتى انتهت الأغنية . وقبل أن يبدأ الفريق ، المكون من عازف الأكورديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس ، بأغنية أخرى ، كان "كمال" قد أعطى الورقة ، التي تحتوي على النوتة الموسيقية لأغنية "سيد درويش" ، لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع رفاقه برهة.. ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلاثة حولنا وأخذوا في عزف الأغنية .. بينما نحن ، بقيادة "كمال هلال" ، نردد كلماتها .
في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت الآلات الثلاثة وصوتنا مشاركا بترديد كلمات الأغنية . ثم ابتدأت همهمات الجمهور الموقـّعة المشاركة تتزايد بالتدريج.. وأخذت الأصوات تعلو شيئا فشيئا.. بينما استغنى أفراد الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة على المائدة ، بعد أن حفظوا اللحن الجميل ، الذي يتصف بأسلوب "سيد درويش" ، "السهل الممتنع"، وابتدأوا كعادتهم بالتجوال بين الموائد ، وقد انتقل الحماس من مائدة لأخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر تصيح سويا مرددة ذلك المقطع المميز :
" والديك بيدّن .. .. كوكو كـــــوكو .. م الفجريه" .
ويحكى أنه ، بعد ذلك ، قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية" الشهيرة في "فيينا"، الذين يتوسم فيهم أفراد الفرقة أنهم من أصول عربية أو شرقية .
* * *
من الأشياء التي وضحها لي "كمال هلال" ، في ذلك الوقت ، كانت مشكلة "الربع تون" في موسيقانا. وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس إلى آلة البيانو . قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون" الكامل ، وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء (المقام الكبير) ، و"النصف تون" , وهو ما نسمعه عند العزف على الأصابع السوداء للبيانو (المقام الصغير).
أما السلالم ، أو المقامات ، الموسيقية العربية المتعددة فيحتوي الكثير منها على نصف النصف .. أي "الربع تون" **، وهوالصوت الذي لا تستطيع الآلات الغربية إصداره . ولقد وضّح لي ذلك سبب عدم استساغة الأذن الغربية أحيانا لأغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية" يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها .
إلا أن هناك مقامات شرقية لا تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم تتعودها الأذن الغربية. مثال ذلك "مقام النهاوند" .. أو"مقام حجاز" الذي صاغ به الموسيقار، فنان الشعب "سيد درويش " ، لحن أغنية "الحلوه دي قامت تعجن .. " .
_________________________________
(**) نمى إلى علمي بعد ذلك ، والله أعلم ، أن "الربع تون" ، "الربع نغمة " ، هو الإسم الدارج .. أما التسمية العلمية الصحيحة فهي : "ثلاثة أرباع النغمة" .
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق